"بوتين يفوز بـ "الجائزة الكبرى

2014-03-25 17:57:17
  • الرئيس الروسي فلاديمير بوتن
/

 

القرم خط أحمر على شواطئ البحر الأسود

هل أطلت الحرب الباردة برأسها من جديد؟ رغم أنه يصعب تأكيد أو نفي هذا القول، إلا أن الثابت في المعطيات الحالية على الأقلّ، هو عودة روسيا إلى الواجهة وصدارة الأحداث، وأيضاً إلى صناعة بعض تفاصيل المشهد السياسي الدولي.

وبعد التعديل السياسي والايديولوجي الذي عصف بها بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، تعود روسيا لتكون في مواجهة المعسكر الغربي الذي دخل بدوره في عملية تجميل طويلة ومعقدة.

ومن ستالين وخروتشيف، وانتهاء ببريجنيف الذين راوحوا بين الحروب ساخنها وباردها والتوتر والتهدئة، تمخضت التحولات والهزّات العنيفة أحياناً التي عرفتها موسكو منذ اعتماد الغرب على يد رونالد ريغان سياسة الإنهاك التي أفضت إلى سقوط المنظومة السوفياتي وتراجع تهديد الجيش الأحمر، عن زعيم جديد بإمكانه خلع حذائه والتلويح به والتهديد في وجه الولايات المتحدة، مثلما فعل نيكيتا خروتشيف الزعيم السوفياتي والأوكراني الأصل، بمناسبة أزمة الصواريخ الشهيرة في كوبا، إنه فلاديمير بوتين.

الجاسوس السابق هدية يلتسين
صارم هادئ وقاسي الملامح، لكنه يُخفي وراء عضلاته المفتولة قدرة على التخطيط والمناورة ورفع التحدي إذا ما فرض عليه، وإذا كان الرجل لا يخاف التصدي للصعاب والدخول في المواجهات المعقدة، حتى أنك تتساءل عن مدى وعي الرجل بما يفعل.

ولكن وبالنظر إلى الأحداث التي تسارعت بشكل درامي منذ اندلاع أزمة القرم، بدا واضحاً أن الجاسوس القديم في ألمانيا الشرقية الشيوعية، ثم مساعد عمدة مدينة لينينغراد التي عادت إلى مُسماها القديم سانت بيترسبورغ الذي خرج من قبعة الحاوي بوريس يلتسين بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، لم يبح بكلّ أسراره ولم يكشف عن كلّ أوراقه، حتى بعد كلّ هذه السنوات التي قضاها تحت أنظار الإعلام وأجهزة المخابرات الغربية والمحلّلين من كل حدب وصوب.

ورغم كل ما قيل وما يقال وما سيقال غداً إذا ما قدر له أن يختفي أو أن يخسر رهانه في القرم، أثبت الرجل على الأقل أنه قارئ جيّد للماضي، ولكن أيضاً للحاضر وللمستقبل، واعتماداً على هذه "المطالعة" يقرر ثم يمضي في تنفيذ قراراه حتى آخر قطرة من حبر القلم الذي يوقع به قراراته، مثلما جرى مع ضمه القرم.

إن المتأمل في التحولات الخطيرة التي أحدثتها "عودة" القرم إلى الوطن الأم بعد قطيعة دامت نصف قرن لم تكن قراراً انفعالياً أو وليد اللحظة، فالقرم كانت ولا تزال الخط الأخير الذي لا يمكن لروسيا التراجع عنه، بوابتها على البحر الأسود ومنه النفاذ المباشر إلى البحر الأبيض المتوسط، وعبره إلى المحيط الهندي وبحر العرب والخليج، إن القرم لروسيا بمثابة الفاتيكان للعالم المسيحي، فإذا كان الكرسي الرسولي بوصلة المؤمنين الكاثوليك في عالم اللاهوت أو الأخلاق المسيحيّة، فإن البوصلة الأخيرة لروسيا هي ما تمثله مرافئ وموانئ القرم في بحر التوازن الاستراتيجي بين القوى الكبرى في العالم الحديث.

الخط الأحمر على شاطئ البحر الأسود
ولكن القرم عند بوتين ليست سوى محطة أخرى توقف عندها مقص القوى الغربية التي ترفض تمكين روسيا من المشاركة في صناعة العالم وضمان دوران الأرض على محاور توازن عديدة، وهو الذي راقب حركة المقص الغربي وهي تمزق الشرايين الحيوية للنفوذ الروسي منذ التسعينات في الخارج بوتيرة هادئة ولكن فعالة، فمن البلطيق إلى يوغسلافيا التي انفجرت إلى كيانات معادية في أغلبها لروسيا، إلى صربيا الحليف التقليدي إلى كوسوفو التي اقتطعها الغرب منها بعد حرب شرسة ودامية وفصلها عنها باستفتاء لا يختلف في شيء عن استفتاء القرم، إلى جورجيا، وصولاً إلى الثورة الأوكرانية الأولى البرتقالية، دون الحديث عن دول أوروبا الوسطى والشرقية التي أصبحت في طليعة البوابات التي تهب منها العواصف الخطيرة على روسيا.

وبوصول الرياح العاتية إلى أوكرانيا والقرم، أدرك بوتين أن الدور سيكون على القلعة والمربع الأخير الذي لا يمكنه التخلي أو المفاوضة بشأنه، أو الخط الأحمر المرسوم على شواطئ البحر الأسود، فإذا لم ترصد الأقمار الصناعية الغربية هذه العلامات على الأرض، فإن ذلك يعني ببساطة أنه لم يكن يملك خيارات كثيرة.

إن المتأمل في التحركات الروسية لا يمكن أن يتفاجأ بحصولها، ولكن المفاجئ فيها راديكاليتها وجديتها إلى درجة لم يتوقعها حتى أشد المتشائمين في أوروبا والولايات المتحدة، عندما كانوا يدفعون في اتجاه دق إسفين الخلاف بين أوكرانيا وروسيا، وهو ما حصل بسقوط النظام القديم وسيطرة اليمين القومي المتطرف على السلطة في كييف.

العقوبات التي لا تعاقب أحداً
ويدرك بوتين الذي يؤكد على أنه لن يُبادر بالردّ على العقوبات الكثيرة التي أقرتها الدول الغربية ضدّ بلاده وضد المقربين منه أن مبادرته بإرباك المخطط الذي كان قيد التنفيذ أوكرانيا سيخفف عليه الضغط الاستراتيجي ولو إلى حين، ذلك أن العقوبات رغم كل الدعاية والعلاقات العامة التي تحاول تقديمها على أساس أنها الأقوى والأشد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، لن تغير شيئاً ولن تجعله يتحرك عن موقفه ولو قيد أنملة، بما أنه يمكن إشهار العصا الغليظة في وجه الغرب والشق الأضعف فيه أي دول الاتحاد الأوروبي وخاصة الدول رهينة الطاقة والغاز والنفط الروسي، مثل دول البلطيق ولكن أيضاً ألمانيا وإيطاليا وغيرها.

ولأنه يدرك أن الغرب لن يستطيع التصرف حياله بأكثر مما فعل حتى الآن، بعد إجباره على اللّجوء إلى القوة تماماً كما حصل في المحاولة السابقة المشابهة التي سعى من خلالها الغرب إلى اختبار شراسة بوتين فدفعت جورجيا ثمن تطوعها للعب هذا الدور في 2008 بعضاً من وحدتها الترابية بسلخ أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا عنها، بعد أن فتحت تبلسي الباب أمام حلف الناتو للتسبّب في جرح غائر في خاصرة روسيا الجنوبية.

أصابع تفجير تحت الطلب
ويبدو أن بوتين بمبادرته في القرم، استخلص العبرة جيداً من الدرس الجورجي بدليل أنه ورغم القوة العسكرية التي حشدها وأربك بها القريب قبل البعيد في الأزمة الأخيرة إلا أنه نجح في الأخير أو حتى الآن على الأقل في أن يضمّ إلى محيطه الحيوي المباشر مساحة تعادل أكثر من مرتين دولة مثل لبنان بأكثر من 26 ألف كيلومتراً مربعاً دون أن تُطلق رصاصة واحدة أو تحلّق طائرة أو ينطلق صاروخ تقليدي أو نووي، وهو الذي يملك آلاف الصواريخ النووية التي تصنع رغم التفاوت التكنولوجي في أي مواجهة مسلحة غير منتظرة مع الغرب توازن الرعب والقوة.

ويعرف بوتين جيداً أن فوزه بجائزة القرم ستتسبب له في متاعب سياسية سريعة، ولكن الدب الروسي الذي لم يتأخر في ملاعبة النمور السيبيرية الشرسة يعرف أنه يحتفظ ببعض أصابع التفجير الشديدة التأثير بين يديه، كما يدرك أن الجهة المقابلة ستفكر طويلاً قبل محاولة صيد الدب القوي، إذ يمكنه استعمال لعبة شطرنج جميلة بين يديه تحتشد عليها عدة قطع للتحريك مثل إيران وسوريا والعراق وتركيا وغيرها، فضلاً عن إسرائيل نفسها، ما ينقل لعبة كسر العظام بينه وبين زعماء العالم الغربي إلى مستوى المصارعة الحقيقية ولكن هل يخشى بطل الجودو والرياضات العنيفة مثل هذه المغامرات؟

رسائل
وبمبادرته التي يصعب التكهن فعلاً بعواقبها الحقيقية على المدى القريب على مستوى روسيا والعلاقات الدولية بشكل عام، وجّه بوتين للغرب رسالة مفادها أنه كشف أولاً عجز الدول الغربية السياسي والعسكري والاستراتيجي، وللأوكرانيين رسالة أخرى مفادها أنه يمكنهم التحسر على ذكريات السياحة في القرم والسباحة في مياه البحر الأسود، تمهيداً لأيام أكثر سواداً، إذا فرضت روسيا على أوكرانيا ومن ورائها رعاتها حظراً خانقاً وهي التي لن يمكنها الاستغناء طويلاً عن غاز ونفط واستثمارات موسكو بعد أن تكتشف أنها أصبحت عبئاً ثقيلاً على "إخوة الغرب" خاصة في هذه الأوقات الصعبة مالياً واقتصادياً.

24- سليم ضيف الله


Related Articles مواضيع ذات صلة


 
 
 
 
مقالات و أَخبار أُخرى